بين صدى صوتها وهيبة حضورها، نحتفل اليوم بالذكرى التسعين لولادة السيدة فيروز التي تجاوزت حدود الزمان والمكان لتصبح مصدر إلهام وأسطورة حية تعكس أصالة الفن العربي. اليوم يحل عيد ميلاد فيروز التي شدَت لنحو 85 عاماً حتى الآن، ودخلت بيوت الملايين بنحو 800 أغنية مع كل إشراقة شمس. فمنذ ظهورها الأول على المسارح والشاشات، أثبتت أنها ليست مجرد فنانة عابرة، بل هي جزء من تاريخ فني عريق، ولم تكن حكراً على جيل واحد، بل أصبحت معشوقة كل الأجيال.
دخلت “جارة القمر” اليوم الخميس عامها التسعين، وقد سطّرت مسيرة فنية وإنسانية ممتدة لحوالي 75 عاماً، قدّمت خلالها موسوعة أغنيات حفظنا منها الكثير. رحلة طويلة من العطاء والتفاني، عاشتها فيروز صاحبة الصوت الذي جعل حليم الرومي يرمي العود من يده ويستمع إليها مذهولاً حين كان بصدد إجراء اختبار لأهليتها للعمل كمطربة في الإذاعة اللبنانية، وما زال صوتها يمارس التأثير نفسه على الملايين، وهي علامة الثبات في أزمنة التحوّلات. وكنا قد قدّمنا لكِ إطلالات أيقونية لا تُنسى للسيدة فيروز وسر تعاونها مع إيلي صعب.
فيروز: لم ولن أترك لبنان!
في خضم الواقع المرير الذي نعيشه، يُعيد يوم ميلاد السيدة فيروز تذكيرنا بلبنان الجميل، لبنان الثقافة والحضارة والجمال الذي حملته بصوتها الملائكي إلى أصقاع العالم، وهي التي رفضت أن تتركه في عز حروبه وأوجاعه. وقد خصّها جمهورها بمكانة مميزة كرمز وطني وفني، وقدّر مسلكيتها الفنية والشخصية، وابتعادها عن صخب الحياة التي يعيشها عادة الفنانون والمشاهير.
فيروز الطفلة
كانت فيروز طفلة خجولة، شديدة التعلق بجدتها. أحبّت الغناء منذ صغرها وأظهرت ميولاً فنية في سن مبكرة. وعلى أعتاب السادسة من عمرها، بدأت فيروز واسمها الحقيقي نهاد حداد رحلتها الغنائية، حيث انضمت لكورال الإذاعة اللبنانية حيث التقت مكتشف المواهب حليم الرومي. بَنَتْ شهرتها في حقبة الخمسينيات، واستطاعت أن تحافظ على نجوميتها خلال عقود متواصلة، ولم يكن يوماً صوتها مجرد نغمة، بل كان الوطن بأوجاعه وأفراحه، بأشواقه وأحلامه.
لقاء الصدفة ولقب العمر
كان للصدفة وحدها دور في التقائها بعاصي الرحباني، تقابلا للمرة الأولى عام 1950 في الإذاعة اللبنانية، وكان عاصي وقتها ملحن مبتدئ يعزف على الكمان ويقدم برامجه الموسيقية في الإذاعة، استمع لصوتها وأعجب به بشدة، ثم حل اللقاء الثاني بينهما عندما طلب حليم الرومي من عاصي تلحين الأغنيات لها.
اقترح حليم الرومي على نهاد حينها أن تتبنى الإسم الفني (فيروز) لأن صوتها يذكره بحجر الفيروز الثمين، لم تتقبل الفكرة في البداية، لكنها أخذت بنصيحته لاحقاً وغيرت إسمها إلى الأبد.
بعد ذلك حظيت فيروز بالعديد من الألقاب التي تمجّد مسيرتها الفنية، وتحاكي تاريخها، وأبرزها: جارة القمر، ياسمينة الشام، ملكة الغناء العربي، سيدة الصباح، صوت الأوطان والصوت الملائكي. كما أكسبها تأثيرها الكبير على الشعوب والموسيقى العربية، لقب “السفيرة إلى النجوم”.
بدايتها الحقيقية
بداية فيروز الحقيقية كمطربة كانت عام 1952، عندما غنّت من ألحان الموسيقار عاصي الرحباني الذي تزوجت منه بعد هذا التاريخ بثلاث سنوات، وأنجبت منه أربعة أطفال.
وشكّل تعاون فيروز مع “الرحابنة” مرحلة طويلة من الإبداع والتجديد في الموسيقى العربية في ذلك الوقت، حين تم المزج بين الأنماط الغربية والشرقية والألوان اللبنانية في الموسيقى والغناء. وقد ساعد صوت فيروز وانسيابيته على الانتقال دائماً إلى مناطق جديدة.
وظلت فيروز حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تغني من كلمات وألحان عاصي ومنصور الرحباني، وبعد وفاة زوجها عاصي عام 1986، عملت مع ملحنين عرب كبار أبرزهم فيلمون وهبة وزكي ناصيف، ثم حلّقت مع ابنها زياد الرحباني إلى آفاق جديدة غير مألوفة في الموسيقى العربية.
كيف تصف فيروز نفسها؟
في مقابلة قديمة تعود إلى عقود ماضية، وصفت فيروز نفسها بالإنسانة الطبيعية والمسامحة التي تكره الخبث وتسعد عند إسعاد الآخرين، والتي تغضب عندما تجد نفسها عاجزة عن السكوت.
وأشارت يومها إلى أنّها تكره الفشل واعترفت بأن العناد هو عيبها الأكبر، وأن المال هو مجرد وسيلة لديها، وأنها تحلم بأشياء كثيرة.
وأكدت فيروز انها لا تحب أن تكون سوى نفسها، وتحب من أهل الفن الفنانة صباح التي قالت أنها مطربتها المفضلة، ووديع هو مطربها المفضل، أما لونها المفضل فهو الأصفر.
أجمل ما قيل عن فيروز
قال نزار قباني عنها: صوت فيروز هو أجمل ما سمعت في حياتي، كما أنه نسيج وحده في الشرق والغرب، وإنها رسالة حب من كوكب آخر، غرّتنا بالنشوة والوجود، وكل الأسماء والتعابير تبقى عاجزة عن وصفها لأنها وحدها مصدر الطيبة.
وقال محمود درويش: فيروز ظاهرة طبيعية، وبعد ماريا أندرسون، لم أعرف صوتاً كصوتها، وهو صوت أكبر من ذاكرتنا، وفيروز ليست فقط سفيرة لبنان إلى النجوم، لكنها رمز لمجموعات ترفض أن تموت، ولن تموت.
وقال عنها محمد عبد الوهاب: فيروز معجزة لبنانية، ولم يعرف الغناء صوتاً أرقّ من صوتها ولا أجمل، صوتها كخيوط الحرير، وأشعة الفضة، كما أنه لم يحدث أبداً أن استطاع شاعر غنائي أن يؤدي الشيء الذي قدر عليه الأخوين الرحباني، من سرعة في إيصال الكلام، كلام سريع، موسيقى سريعة وممتعة، وفيروز كل هذا… جملة واحدة استطاعت أن تشكل هذه المعجزة الغنائية.
يوم فيروز
غنت فيروز للحب والحياة البسيطة ولوطنها لبنان والقضية الفلسطينية، وأحيت الحفلات في العديد من المدن العربية والعالمية، وقد مُنحت في كثير من الأحيان مفاتيح المدن التي غنّت فيها، عرفان محبة وتقدير واحترام لفنها، ومن بين الأوسمة التي نالتها وسامان لبنانيان: وسام الاستحقاق الذي تسلمته في عهد الرئيس كميل شمعون، ووسام الأرز من رتبة ضابط أكبر تسلمته في عهد الرئيس شارل حلو، كما كرمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأرفع وسام فرنسي (وسام جوقة الشرف الفرنسي) عندما زار منزلها في لبنان عام 2020.
وخلال حفلتها الموسيقية في لاس فيغاس عام 1999، أعلن عمدة المدينة رسمياً يوم 15 مايو 1999 “يوم فيروز”.
وفي صيف ٢٠١٨، اعتبرتها قائمة مجلة فوربس الاقتصادية الأميركية للنجوم العرب على الساحة العالمية نجمة “فوق التصنيف”، ووضعتها في مرتبة استثنائية فريدة هي “أعظم نجوم الفن – الذين ما زالوا على قيد الحياة – لكل العصور” All Time Great. وقد تصدّرت أغنية “نسم علينا الهوى” لفيروز قائمة بيلبورد عربية لأكثر 50 أغنية ليفانتين، بعد 57 عامًا على صدورها.
فيروز… آخر عمالقة الفن
أي حفلة تحييها فيروز كانت تشكّل حدثاً فريداً، أي ذكر لها يحرّك وسائل الإعلام ويثير في مواقع التواصل الاجتماعي عاصفة لا تهدأ بسهولة. وفي العام 2015، تحوّل منزلها الذي نشأت وترعرعت فيه إلى متحف.
لم يبقَ لنا من جيل الكبار في الغناء العربي سواها، أطال الله في عمرها. تضم قائمة أغنياتها رقماً يستعصي على الحصر، حيث تبدو كل أغنياتها شهيرة، ترددها كافة الأجيال. وقد يهمكِ الاطلاع على أشهر أغاني فيروز التي لا تزال خالدة إلى يومنا هذا.
لم تكن فيروز مجرد فنانة، بل كانت قدوة لمختلف الأجيال. وحتى اليوم، تُعدّ أعمالها مرجعاً للفنانين والمبدعين في العالم العربي، وستبقى حيّة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، مما يثبت أن فنها خالد.
وقدمت ثلاثة أفلام سينمائية هي “بياع الخواتم” إنتاج 1965، و”سفر برلك” إنتاج 1967، و”بنت الحارس” إنتاج 1968، وقدمت برنامجاً تلفزيونياً غنائياً بعنوان “الإسوارة” عام 1963.
كما قدمت فيروز على مدار مسيرتها الفنية 15 عملاً مسرحياً غنائياً كان أولها “جسر القمر” عام 1962، وبين أشهرها “بياع الخواتم” و”هالة والملك” و”يعيش يعيش” و”صح النوم”.
صوتها يرافقنا في كل مراحل حياتنا
في عامها التسعين، تتحول ذكريات فيروز وإنجازاتها إلى كنز ثمين في قلبها. صورتها الأيقونية ترسخت وباتت تنتقل من جيل إلى جيل، وهي جزء من وجداننا الثقافي. لأغنياتها، أفلامها، ومسرحياتها، مكانة خاصة في قلوبنا. أغنيات فيروز ليست مجرد موسيقى بالنسبة لنا، بل صوتاً يرافقنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا. حين نستمع إليها، نشعر وكأن الكلمات تخترق أعماق روحنا، ويتجاوز الأداء حدود الصوت ليصل إلى القلب مباشرة.
أغنياتها بمثابة مرايا عاطفية، تعكس ما بداخلنا من مشاعر وأحلام وآلام. في كل مرة نستمع إلى إحدى أغنياتها، نكتشف جوانب جديدة من أنفسنا. مسرحياتها، كانت تحمل دوماً رسائل عميقة، تمنحنا القوة لمواجهة تحديات الحياة بعزيمة أكبر. أما أفلامها، فتجعلنا نفهم الناس من حولنا بشكل أعمق.
اليوم، ونحن نحتفل بمرور تسعين عاماً على ميلادها، نقف احتراماً أمام الإرث الكبير الذي قدّمته لنا. نحتفل بكل لحظة من لحظات نجاحها، متمنّين لها عاماً جديداً مليئاً بالصحة والسعادة والإلهام.