في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، حيث يتداخل عبق التاريخ مع الروح المعاصرة، يبرز محترف “بُقجة” كمنارة تروي قصص الأجداد وتاريخ المنطقة، معبراً عن جمالية تداخل حضارات غنية ومتنوعة.
قبل نحو ربع قرن، أسست هدى بارودي وماريا هبري علامة “بُقجة”، مستندتين إلى شغف عميق بالمنسوجات التراثية والحرف اليدوية. وفي حوار شيّق مع “ياسمينة”، تتحدثان عن تقاطع الإبداع مع الحرفية عبر تقديم تجارب فنية عابرة للأجيال، تخاطب المشاعر وتحتفي بالقصص المنسية.
ونبدأ بالمحطة الأخيرة، فكما تعكس تصاميم مصممة المجوهرات المصرية عزة فهمي إرثاً ثقافياً غنياً، فإن تصاميم “بُقجة” تنبض بنفس الروح، وقد أدى التعاون بينهما إلى تصميم خلاّق لمتجر عزة في الرياض، الذي يحتفي بجمال مصر وتاريخها، وينقل الزوار الي حضارات مرت على مصر وتداخلت لتشكل نسيجاً ثرياً.
دعونا نتعمّق في عالم “بُقجة” برفقة هدى وماريا، حيث يشاركانا رؤيتهما الفريدة في دمج التراث مع الحداثة. سنكتشف معاً عمق تجربتهما الفنية الملهمة، وكيف تعكس تصاميمهما تجربة إنسانية غنية مليئة بالتحديات والأمل.
– متى ولدت فكرة “بُقجة”، وكيف وقع اختياركما على هذا الاسم؟
تأسست علامة بُقجة في العام 2000، لتجسد شغفنا العميق بالأثاث والمنسوجات والفن والتصميم. إذ قضت هدى سنوات في جمع الأقمشة من طريق الحرير، بينما تُعدّ ماريا خبيرة في قطع الأثاث العريقة التي تحمل جمالاً خفياً. سُميت العلامة باسم إقليمي يشير إلى “حزمة” أو “قطعة قماش تستخدم لتغليف مهر العروس”، مما يعكس تراثاً ثقافياً غنياً.
في مشغل بُقجة في بيروت، يتلاقى المبدعون والحرفيون من مختلف البلدان ليصنعوا تجارب مبتكرة تجمع بين الإبداع والتحفيز وإسعاد الآخرين. ويركز فريق بُقجة على استكشاف كيفية تشكيل هذا التراث المعماري، وكيف يمكن أن يتنقل ويتكيّف عبر الثقافات، بالإضافة إلى كيفية مشاركته وتوصيله للآخرين، في إطار يعكس تاريخاً حميماً ورؤية شجاعة.
– ما الذي ألهمكما لخلق “بُقجة” وما هي الرسالة التي تحاولان إيصالها من خلال تصاميمكما؟
نشأت علامة “بُقجة” من شغف مشترك بيننا، مستلهَمة من رحلة إلى آسيا الوسطى وفن طبقات الأقمشة. أشعلت هذه التجربة رؤيتنا لإنشاء لغة جمالية ومرئية فريدة، تميزت عن الأنماط التقليدية. “بُقجة” تمثل تداخلاً غنياً من الأفكار، تجمع بين طبقات متعددة من الإلهام والتجديد. نُطلق عليها “التصميم الاجتماعي”، لأنها تلبي احتياجات معاصرة من الاستدامة، وإعادة التدوير، وريادة الأعمال الاجتماعية، مع تقديم جمالية جديدة تبرز فردانية كل قطعة.
ما يميز هذا المشروع هو تفاعله العميق مع الجوانب الثقافية والحضارية للناس، من خلال دمج طبقات من التطريز التقليدي والعرقي من خلفيات متنوعة. لقد ترك هذا المزيج تأثيراً دائماً، يهدف إلى تقديم شيء فريد وذو معنى، يعبّر عن هوية لا يمكن تجاهلها.
– ﻛﻴﻒ ﺟﻤﻌﺘﻤﺎ ﺧﺒﺮﺗﻴﻜﻤﺎ ﻓﻲ ﺗﺼﺎﻣﻴﻢ ﺗﺨﻠّﺪ اﻟﺬاﻛﺮة وﺗﻨﺘﻘﻞ ﻋﺒﺮ اﻷﺟﻴﺎل؟
نحن ناشطتان بارزتان في المشهد الفني والثقافي المزدهر في بيروت، حيث ندعم بفخر المواهب المحلية الصاعدة. نجمع بين شغفنا المتنوع ورؤية ثاقبة للحرفية والتراث الفريد.
هدى تحمل شغفاً عميقاً بالمنسوجات، فقد جمعت على مر السنين مجموعة من القطع القيمة، وحرصت على الحفاظ عليها بعناية. كعاشقة للفن، تنجذب نحو الأعمال المطرزة يدوياً، وتمتلك تقديراً خاصاً للجمال الساذج، حيث تكتشف في بساطة هذه الأعمال عمقاً لا يتعارض مع جودتها. تُعدّ هذه الفنون الساذجة تجسيداً لرؤيتها الجمالية، التي تحتفي بالجمال الخام وغير المكرر.
أما ماريا، فقد وجّهت حبها للمنسوجات والفن والأثاث إلى مهنة نابضة بالحياة، مستفيدة من خبرتها السابقة كمنسقة زهور وخبيرة أثاث عريق. تتنوع معارفها بين المنسوجات الآسيوية الوسطى والعثمانية، والأثاث العتيق، إضافة إلى التصميم والفن اللبناني. ومن خلال عملنا، نسهم في إثراء المشهد الثقافي، مع الحفاظ على تقاليد فنية غنية وتعزيز المواهب الجديدة.
– ﻣﺎ ﻫﻲ أول ﻗﻄﻌﺔ ﺻﻤّﻤﺘﻬﺎ “ﺑُﻘﺠﺔ”؟
بينما كنا نجلس في استوديو تنسيق الزهور الخاص بماريا، لفت انتباهنا كرسياً كان يبدو مثالياً لتغطيته بقطعة القماش السوزاني التي اشتريناها. هذه القماشة، التي تُعتبر رمزاً للتراث، وتتميز بزخارفها المطرزة الجميلة والمصنوعة في دول آسيا الوسطى. وهكذا، تحول هذا الكرسي إلى أول قطعة فنية من “بُقجة”، يجسد بداية رحلة إبداعية جديدة.
– كيف تختاران المواد التي تستخدمانها؟ وهل تفضلان المواد المعاد تدويرها؟
تُعتبر الاستدامة جوهر فلسفة “بُقجة”، حيث تجسد التزاماً غريزياً وعميقاً منذ تأسيس العلامة. تتجلى هذه الرؤية من خلال سياسة عدم إهدار أي شيء، وتمكين مجتمعات الحرف اليدوية الإقليمية، إضافة إلى رسالتنا البصرية التي تتناول مواضيع مثل السرد البيئي.
في “بُقجة”، لا يُهدر أي شيء. كل قطعة تُنتج بأقل قدر من النفايات على يد حرفيين مهرة في مشغلنا في بيروت. حتى بقايا القطع يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لتصميم أو مجموعة جديدة، مما يُنشئ حلقة دائمة من إعادة الاستخدام والإنتاج المستدام. نحن نُرّمم ونُصلح ونُعدل ونُعيد تصور المنسوجات، مع الالتزام بقيم التصميم البطيء، سواء كانت هذه العمليات دقيقة أو تأملية.
نرى أن الأقمشة القديمة تعكس تجاربها في العالم الخارجي، مرور الوقت وتاريخه. من خلال هذا النهج، نسعى إلى خلق قطع تحمل معاني عميقة، تُمثل تراثاً حياً يتجاوز حدود الزمن.
– هل التطريزات الموجودة في تصاميم “بُقجة” يدوية؟ وما هي التقنيات الحرفية التي تستخدمونها لصنع القطع المعاصرة؟
في “بُقجة”، تُعتبر الحرفية جوهر عملنا. بينما نستخدم الآلات للتطريز، فإن الفنان الذي يقف خلف كل آلة هو الذي يُضفي الحياة على كل قطعة، مُدمجاً بين المهارة والرؤية الإبداعية. فالآلة ليست أكثر من أداة، بينما الفن ينبع من أيدينا.
تتجلى هوية “بُقجة” في مساحة التجميع، حيث نجمع المنسوجات والأنماط والألوان من مختلف أنحاء العالم، مع تركيز خاص على بلاد الشام وآسيا الوسطى. كل قطعة في مجموعتنا تحتفظ بهويتها المادية الفريدة، ومترابطة مع ثقافات وأقمشة متنوعة. تُعالَج المنسوجات المجمعة بتطريزات معاصرة في مشغل “بُقجة”، مقدَّمة في سياق جديد، مما يُواصل رحلة كل قطعة قماش.
وتكمن الأهمية هنا في استغلال الجوانب المهمَلة من التاريخ الذي يحمله كل قماش. تصبح مساحة التجميع، الجلد المنجد للأشياء المختارة بعناية، بدءًا من الأثاث وصولاً إلى القطع الفريدة.
وتجمع “بُقجة” بين أزمنة وأماكن متباينة، وتضعها في ترتيبات غير اعتيادية في سياق جديد. وبهذا، يتم إنشاء مفردات بصرية غنية وغير متوقعة من معلومات مشفرة وتعبير جمالي عميق.
– هل تتبعان الأسلوب السائد والألوان الرائجة في تصميم القطع؟ وما هي مصادر الهامكما؟
“بُقجة” تمثل علامة تجارية أصيلة لا تسير خلف الموضة الرائجة. كل ما نبتكره ينبع من أعماقنا، من قلوبنا وعقولنا، ولا يتأثر أبداً بالاتجاهات السائدة. كل قطعة نصنعها تجسد عملية إبداعية شخصية عميقة، وهذا الالتزام الثابت برؤيتنا الداخلية يضمن أن يبقى عملنا خالداً ومليئاً بالمعنى.
الفن كوسيلة للتعبير عن الألم
– ترويان قصصاً منسية بلغة بصرية، وبعد أن أظهرت منسوجاتكما شظايا الزجاج التي تناثرت في شوارع بيروت بعد انفجار المرفأ، هل بدأتما بالتحضير لمنسوجات تجسّد الألم الناتج عن الحرب الحالية؟
على الرغم من أننا نعمل حالياً من مساحة مؤقتة، تظل رؤيتنا ثابتة، حيث لدينا العديد من المشاريع والتعاونات المثيرة التي يجري العمل عليها.
– بعد انفجار المرفأ، حوّلتما صالة العرض المتضررة إلى مركز مجتمعي لإصلاح أثاث الناس المتضرر من الانفجار. استخدمتما حينها الغرز الحمراء لإصلاح الأقمشة، مما يرسم أوجه التشابه مع الغرز التي استخدمها المسعفون لخياطة الجروح على الوجوه والأيدي والأرجل ليلة الانفجار… كيف ستصلحان الأقمشة المتضررة من هذه الحرب؟
في رأينا، لا يوجد نسيج أو قماش متضرر حقاً؛ فكل عيب يروي قصة. تعكس علامات التآكل أن القماش عتيق وقد صمد أمام الزمن، حاملاً معه تجارب حياة غنية، مثل الندوب، تضفي هذه “الأضرار” طابعاً خاصاً، وتثري القماش بمعانٍ متعددة، مما يجعله أكثر قيمة بالنسبة لنا. إنها تلهمنا لإعادة استخدام كل قطعة، وتجميلها، وتكريمها، والاحتفال برحلتها الفريدة.
التعاون مع عزّة فهمي
– ما هي أوجه الشبه بينكما وبين مصمّمة المجوهرات المصرية عزّة فهمي، وكيف وقع عليكما الاختيار لتصميم أثاث متجرها في الرياض؟
نتشابه مع عزة فهمي باحترامنا العميق للفن الذي يحمل معنى وتاريخاً، وكلانا يحتفي بالحرفية التي تروي القصص. قالت عزة فهمي لنا: “يا بنات، حنكسّر الدنيا” عندما اجتمعنا للتعاون. وقد أسفرت هذه الشراكة عن نسيج مذهل يزين الآن جدران أول متجر رئيسي لـ عزة في المملكة العربية السعودية، حيث تنسج حكايات من مصر في أجواء حالمة وفاخرة.
– ما هي العناصر الفنية التي تم دمجها في التصاميم لتعزيز الشعور بالرفاهية والفخامة داخل المتجر؟
المفروشات التي تزين جدران متجر عزة فهمي في الرياض ليست مجرد قطع جدارية، بل هي قصة غامرة تروي حكايات مصر وتجسد روح القاهرة بتفاصيلها الفريدة. تعكس الأنماط المعقدة والزخارف الرمزية سحر المدينة الخالد، بدءاً من الأسواق الصاخبة وصولاً إلى الأزقة الهادئة، حيث يتداخل التاريخ مع الأحلام. كل خيط ينقل جزءًا من جوهر القاهرة: غموض الفراعنة القدماء، ودفء الأسواق النابضة بالحياة، وهمسات العديد من القصص المخبأة في شوارعها. إن هذه المفروشات تحول المتجر إلى نافذة تُفتح على مصر.
– كيف كانت تجربة الافتتاح في الرياض وكيف تفاعل الحضور السعودي مع فنكما؟
كان رد الفعل تجاه هذه القطع الجدارية إيجابياً بشكل كبير ومؤثراً. تلقينا تعليقات صادقة من الأشخاص الذين تفاعلوا بعمق مع رسالتها. والأهم من ذلك، أنها نجحت في نقل جزء من مصر إلى المملكة العربية السعودية.
– هل هناك أي أساليب أو توجّهات جديدة تخططان لاستكشافها في المستقبل؟
المستقبل مفتوح على مصراعيه أمامنا بفرص لا حصر لها، حيث يحمل كل يوم أفكاراً ومشاريع جديدة. رؤيتنا هي أن تُحتفى “بُقجة” كشكل فني جماعي، ينتشر عبر مساحات متنوعة، ويُلهم من خلال التركيبات الفنية، ويعبّر عن امتناننا للعالم، مدفوعاً بالحب والإبداع فقط. من المعارض إلى الجدران، ومن منصات العرض إلى الأثاث، والمشاريع المصممة حسب الطلب، الخيارات متاحة بلا حدود. ومع كل هذه الإمكانيات، نلتزم بمبادئنا التي تظل ثابتة وغير قابلة للتغيير.
– ما هي النصائح التي تقدمانها للمصممين الذين يرغبون في العمل على مشاريع مماثلة؟ وماذا تعني لكما بيروت؟
لا توجد قواعد طالما أن الإبداع ينبع من القلب وتُحترم فيه الطبيعة وحكمة الماضي. الأهم هو أن يحمل العمل معنى، ويثير المشاعر، ويقدّم شيئاً جديداً مع الحفاظ على قيمة ما سبق.
تُشبه المدينة التي تنطلق منها “بُقجة” في بيروت، سطح العلامة المُركب، حيث يتواجد القديم جنباً إلى جنب مع الجديد. إن بيروت هي أفضل مكان على وجه الأرض.
– كيف يؤثر ما تمر به بيروت ولبنان والحرب عليه على القطاع الحرفي؟ ما هي التحديات التي تواجهونها ويواجهها الحرفيّون؟
لقد تركت الحرب أثراً عميقاً على الحرفيين في لبنان، حيث لم تقتصر تأثيراتها على تهديد أماكن عملهم فحسب، بل طالت أيضاً الإرث الثقافي الذي يسعون جاهدين للحفاظ عليه. هؤلاء الحرفيون المهَرة هم أكثر من مجرد مبدعين؛ إنهم حُرّاس لتراث ثقافي يتوارثه الأجيال. ومع مواجهة الاضطرابات، يجدون أنفسهم مضطرين للتكيف، وغالباً ما يتنقلون ويبتكرون من جديد من أجل الحفاظ على فنهم حيّاً. ورغم أن هذا الغموض يثقل كاهلهم، فإنه يعزز أيضاً من تفانيهم في حرفتهم. إن إنتاج الفن في ظل هذه الظروف ليس بالأمر السهل، بل هو شهادة حية على قوتهم وصمودهم.
عندما واجه مشغلنا في منطقة البسطة، قلب بيروت النابض بالحياة، تهديدات الحرب، لم نتوقف عن العمل؛ بل تكيّفنا مع الظروف. انتقل حرفيونا حاملين معهم مهاراتهم واستمروا في الإبداع. لقد شحذت هذه التجربة عزمنا، ودفعنا نحو إنشاء قطع تحمل معنى وقوة، تجسد مرونة مجتمعنا. كل قطعة نصنعها الآن تحمل روح البقاء، مما يثبت أنه حيث تتعثر الكلمات، يبقى الفن حاضراً.
– مع كل المآسي التي يمر بها من يختار بيروت مركزاً لعمله، هل يمكن للحرب والمآسي أن تصبح مصدراً للإلهام أيضاً؟
تدفعنا هذه التحديات نحو الأمام، حيث عزّز تأثير الحرب واللحظات الصعبة عزيمتنا في “بُقجة”. ورغم العقبات التي نواجهها، نستمر في المضي قدماً. تواصل مشاريعنا التقدم، مدعومة بدعم ثابت من عملائنا المخلصين والمتعاونين، الذين ألهمنا تشجيعهم لإطلاق مبادرات جديدة تركز على المجتمع. لقد أسفر هذا التضامن عن تعميق علاقاتنا خارج نطاق العمل، ويُذكرنا بأننا جزء من مجتمع أكبر، يدعم بعضه البعض في الأوقات العصيبة.